منوعات

جديد الذكاء الاصطناعي: أنف يشمّ رائحة التّاريخ الأوروبي

إحياء روائح الماضي البعيد أمر مثير جداً، فمن منّا لا يحب أن يكتشف كيف كان يتعطّر الرّجال والنّساء القدماء؟ وما هي أنواع عطورهم؟ وأيّها الأجمل؟ وهل تشبه عطور حاضرنا؟ أو كيف كانت تفوح الرّوائح من الأشياء؟ وهل باستطاعتنا التّعرّف إلى الماضي المعطّر؟

كل هذه الأسئلة حملها مؤرخون وخبراء في الذّكاء الاصطناعي، وكيميائيون وعطّارون من دول عدة، كهولندا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا وسلوفينيا وبريطانيا، لإطلاق مشروع “Odeuropa” بهدف إنتاج روائح شبيهة بالروائح الأوروبيّة، التي انتشرت بين القرنين السّادس عشر وأوائل القرن العشرين.

الإنغماس في القرون الماضية

يسعى الباحثون في مشروعهم الجديد إلى إيجاد الروائح القديمة بين القنوات النتنة. ولإتمام المهمة، سيستعينون بالذكاء الاصطناعي في تدريب أجهزة الكمبيوتر على مسح النّصوص التاريخيّة المكتوبة بسبع لغات، بحثاً عن أي أوصاف للرّوائح، بحسب ما كشفت صحيفة الغارديان. وسيتم تدريب الأجهزة أيضاً على اكتشاف صور الأشياء في النّصوص التي قد تكون عطريّة؛ على أن يستخدم الفريق بعد ذلك هذه المعلومات، بهدف إنشاء موسوعة للرّوائح على الإنترنت من ماضي أوروبا.

وستصبح قاعدة البيانات هذه أرشيفاً لتراث العطور في أوروبا، مما سيمكّن الأجيال القادمة من الوصول والتّعرف على الماضي المعطّر.

وسيتم إرسال عينات الرّوائح التي يُعاد ابتكارها اعتباراً من العام المقبل، إلى متاحف أوروبيّة عدّة، لتمكين الزّوار من الإنغماس في الماضي عبر حاسة الشّم.

أرشيف معطّر

من جهته، يقول مؤرّخ العطور ويليام توليت، “نظراً لأن الروائح أساسيّة في الحياة اليوميّة، فإنّها تستحق أن يكون لها أرشيفاً”. ويأمل أن يعيد القيّمون على المشروع خلق الرّوائح التي تحاكي العمليّات الكيميائيّة، وعمليات التّصنيع، التي تفوح منها رائحة الثّورة الصّناعيّة.

ويردف، قد نتخيّل أنّ الماضي كان مكاناً كريه الرائحة، فنحن نعيش في عالم أنظف وأجمل كثيراً اليوم؛ موضحاً أنّ من إحدى نقاط المشروع هي “إبعادنا عن الفكرة القائلة أنّ الماضي كان نتن الرّائحة”؛ لافتاً إلى تشجيع النّاس على التّفكير في الرّوائح الكريهة والعطرة” في آن معاً.

ويضيف، لقد أظهر كوفيد 19 الآثار السّلبيّة العميقة التي يمكن أن يحدثها فقدان حاسّة الشّمّ_ أحد أعراض المرض وآثاره الجانبيّة، على صحتنا العقليّة والجسديّة. فقد سلّط الوباء الضّوء على هشاشة محيطنا الحسي، والحاجة إلى الحفاظ على الرّوائح التي لها قيمة في المجتمعات.

تجدر الإشارة، أنّه سيتم من خلال مشروع الذكاء الاصطناعي هذا، استخدام أجهزة الكمبيوتر للعثور على إشارات للروائح، مثل العطور المضادة للأمراض، والتبغ في منتجات تاريخيّة، سواء في نطاق الأدب أو اللّوحات الفنّيّة.

للروائح الكريهة تاريخ

في المقابل، يقول كارو فيربيك، مؤرّخ العطور: “من المثير للإهتمام أن نجعل الجمهور يتعرّف على مجموعة كاملة من الرّوائح. سيجعلنا ذلك أوعى حول كيفية ارتباطنا بالرّائحة اليوم، حيث تم تقدير الرّوائح بشكل مختلف في الماضي.”

ويتابع، للرّوائح الكريهة تاريخ أيضاً، وقد تغيّر تصوّرنا لما كان لطيفاً أو كريه الرائحة، مثلاً: أصبحت روائح الجسم من المحرّمات في بداية القرن العشرين، عندما أتاح الإنتاج الصّناعي العطور والصّابون للطبقات الاجتماعيّة الدّنيا.

ويشير  المؤرّخ الى دور التّكنولوجيا الحاليّة في تصنيع كل الرّوائح تقريباً؛ مستدركاً أنّ الجزء الأصعب من المشروع هو العثور على أوصاف للرّوائح، “لأن النّاس لم يشيروا إليها أو يكتبوا عنها”. ويؤكّد، أنّ الرّائحة تتيح لنا الوصول إلى الماضي بطريقة حميمية ومباشرة وعاطفية عبر اللّغة والصور.

هذا، ومن المقرّر أن يبدأ المشروع الذي تبلغ كلفته 3.3 مليون دولار في كانون الثاني من العام المقبل، وقد تستغرق مدّته ثلاث سنوات. وتساعد دراسة الرّوائح في اكتشاف الحضارات القديمة، كونها وسيلة جيّدة لحفظ الأثر الحيّ لعهد ما أو لشخص ما.

في هذا الإطار، يوضح الباحث والمؤرّخ والأستاذ الجامعي د. علي الحلاق، في حديث لـ “أحوال” أنّ ربط حاسّة الشّم بالحواس الأخرى يمنحنا بعداً إضافياً لفهم التّاريخ، “لأنّ الرائحة عامل مهمّ لإثارة الذّكريات القديمة”. فهي ترسل المعلومات الشميّة مباشرة إلى الدّماغ دون أن تمرّ بمرحلة (فلترة) الأفكار المعقولة في عدة أماكن داخل الدّماغ.

بين العصور القديمة والوسطى

ويلفت الباحث والمؤرخ إلى أنّ الشّم حاسة نتعرّف من خلالها على ما لا يُوصف من الروائح التي تنبعث من الكائنات والأجواء والمناخات وكل ما يحيط بنا. “وبما أنّ الإنسان يميل بطبيعته للرّوائح الجميلة، فقد ساهمت العطور بإبراز القيمة الحقيقيّة للأشياء غير الملموسة”.

ويتابع، لو عدنا إلى مصر الفرعونيّة، لوجدنا أنّ الدّين كان مسألة حاضرة في كلّ مجالات الحياة، وكان العطر بمثابة العنصر الإلهي الذي يُستخدم في الاحتفالات الطقوسية والتأبينية ومراسم دفن الأموات.

ويشير إلى الشّعوب القديمة، “حيث كانت روائح البخور والمسك والعنبر جزءاً من مقتنيات المعابد، وفي العصور الوسطى وتحديداً خلال الحروب الصّليبة، وصف أسامة بن منقذ أحياء الصليبيين في بيت المقدس بالنتنة، بسبب الروائح الكريهة التي تنبعث منها.” ويتابع، كان المسلمون يتعطّرون بالرّوائح الطّيبة قبل دخولهم المساجد. أمّا في أوروبا فكان العطر، لا سيّما القفازات والأكياس المعطّرة والخل، من الأمور التي انتشرت كثيراً في وقت اجتاحت فيه الأوبئة والأمراض كل أنحاء القارّة، خلال الفترة الواقعة بين القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حيث كان الناس يخافون على أنفسهم من العدوى.

ويوضح الحلاق أنّ الروائح الكريهة منها والعطرة ترتبط بالذّاكرة، “فكثيراً ما نتذكّر حادثة معيّنة رافقتها رائحة معينة. كأن نتذكر مرحلة  شهدناها من مراحل الحرب، إذا شممنا رائحة البارود. من هنا، يمكن القول إنّ استعادة الروائح التي كانت سائدة في فترة ما تكوّن ذاكرتنا التاريخيّة.”

قنّاص العطور

إذن، فكرة الإرث الشّمي ليست جديدة، ففي سبعينات القرن الماضي اخترع الباحث السّويسري “رومون كيسر” ما يُسمى بـ  Headspace، وهي عبارة عن كرة زجاجية مرتبطة بأنبوب، يسمح من خلال محلول معين، التقاط رائحة نبتة أو وردة من دون أن يتلفها.

“كيسر” الملقّب بقناص العطور جاب كل العالم، وفي عام 2010 تمكّن من وضع فهرس لروائح الأنواع النباتية المهدّدة بالانقراض، بعد أن أعاد تركيبها بطريقة كيميائيّة. أمّا بعض المتخصصين في الروائح أمثال “سيسل تولاس” من ألمانيا، فيستخدم تقنية الـ Headspace، لإعادة تصنيع أو تخليق روائح بيئتنا التي نعيش فيها؛ كرائحة كشك الهاتف، وبقايا من مواد الكسر التي تبقى بعد تدمير مبنى، أو بقايا المواد في الورش، أو رائحة عقب السجائر. ويعتقد “تولاس” أنه سيأتي يوم ربما لن نجد فيه أثراً لهذه الروائح التي تدلّ على آثار حضارتنا الراهنة، لذا يجب أن يُعتبر مبدأ الـ Headspace، قاعدة البيانات التي ستحفظ آثارنا كبشر لمؤرخي المستقبل.

 

ناديا الحلاق

 

 

ناديا الحلاق

صحافية في صحف لبنانية عدة في أقسام السياسة الدولية والاقتصاد. كاتبة في مجلات عربية عدة ومواقع الكترونية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى